في زمن المطالبة بالديموقراطية و العدالة و الحرية يعود الرق من الأبواب الخلفية

في عالم طوته العولمة و اختصرته بحسناته ومساوئه و افاته .فظاهرة الاتجار بالبشر تعتبر من اخطر الافات ذات الطابع العالمي، فهي ليست محصورة في دولة او امة بعينها، بل معظم دول العالم تنطوي على شبكات ومافيات منتظمة تدير عمليات واسعة للاتجار بالبشر، وبالاعضاء البشرية ايضا، وهناك استخدامات متنوعة لهؤلاء البشر الذين تتم المتاجرة بهم، فمنهم من تتم المتاجرة به في مجال الجنس والدعارة كالفتيات القاصرات والاطفال والنساء عموما، ومنهم من يتم تسخيره للعمل، أي زجه في أعمال السخرة بالقوة مقابل اجر زهيد وظروف عمل سيئة جدا، ومنهم من ينخرط في بيع الاعضاء البشرية، وهكذا نلاحظ الاستخدمات العديدة لهؤلاء البشر الذين تتم المتاجرة بهم من طرف عصابات ذات طابع او تنظيم عالمي، والمشكلة أن هذه الظاهرة لها جذورها الضاربة في المجتمع الغربي وسواه، وغالبا ما تطال اضراره الدول والشعوب الفقيرة اكثر من سواها، والمشكلة الاخرى ان سبل وو سائل المكافحة عالميا، اقل من نمو وتكاثر هذه الظاهرة، لدرجة انها باتت تشكل خطرا لا ينبغي اهماله او التغاضي عنه، واذا جئنا الى هذه الظاهرة في حدود الدول العربية سنلاحظ وجودها وتناميها في العديد من هذه الدول، مع تقاعس حكومي واضح في الحد من إفرازاتها الخطيرة، ومن الجدير بالذكر بأن الاتجار في البشر مع تجارة الأسلحة غير المشروعة تعد ثاني أكبر تجارة غير قانونية بعد المخدرات، وتعد أيضا الأكثر نموا في العالم،
وبالنظر إلى الخلفية التاريخية لظاهرة الاتجار بالبشر نجد أنها قديمة قدم المجتمعات البشرية, وهناك أمثلة من التاريخ لمجالات وحوادث شنيعة لا حصر لها من حالات عبودية الإنسان لأخيه الانسان, ومن ذلك استغلال ملايين المصريين القدامى من قبل الفراعنة في بناء الأهرامات كقبور لهم، حيث مات أغلبهم إعياء ومرضا وإرهاقا في عمليات البناء الشاقة لتلك الاهرامات, وكذلك المستعمرين الاوربيين الفاتحين لقارة امريكا با ستعبادهم لملايين الافريقيين لقرون لبناء القارتين، وجعلهم بمرتبة قطعان الحيوانات للتربية للعمل او البيع،و الامبرطوريات المستعمرة في العصر الحديث كبريطانيا و فرنسا و البرتغال واسبانيا واستغلال الاستعمار للسكان المحليين وتشغيلهم بالسخرة كماحدث في استراليا و افريقيا وكذلك استغلال هتلر وامثاله لملايين الجنود في حرب فاشية راح ضحيتها أبرياء لا ناقة ولا جمل لهم سوى تحقيق أحلام وطموحات ساقطة وقذرة, ايضا ما يسمى بتجارة “الرقيق الأبيض” وهي تجارة تقوم على استغلال الفتيات في الدعارة والبغاء والملاهي الليلية، …..الخ.
ويعرف مفهوم الإتجار بالبشر المتفق عليه دولياً بأنه “الاستخدام والنقل والإخفاء والتسليم للأشخاص من خلال التهديد أو الاختطاف أو الخداع, واستخدام القوة والتحايل أو الإجبار أو من خلال إعطاء أو أخذ فوائد لاكتساب موافقة وقبول شخص يقوم بالسيطرة على شخص آخر بهدف الاستغلال الجنسي أو الإجبار على القيام بالعمل . وهذا التعريف ساد إطلاقه على الاتجار بالبشر لاعتماده على النص القانوني لبروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالبشر و خاصة النساء والأطفال، وهو البروتوكول المعتمد من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها 55/25 الصادر في 25 نوفمبر 2000م، الذي بدأ نفاذه في 25 ديسمبر 2003م، والمكمل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة.
أبرز مظاهر أو أشكال الإتجار بالبشر في الوطن العربي ، التي تصل إلى مستوى (الظاهرة) هي (التسول, عمالة الأطفال, وتهريب الأطفال)، حيث تتولى جماعات أو منظمات لها أعرافها وقواعد تنظم نشاطها, نقل آلاف المتسولين وتوزيعهم وتنسيق عمليات تسولهم وجمع ايراداتهم مقابل حمايتهم من المسألة الاجتماعية أو القانونية وإعطاءهم نسبا مما يكسبون, وهي في مجملها تجارة دنيئة ولا أخلاقية وبائسة, أما “عمالة الأطفال” فالشواهد والأدلة كثيرة على استغلالهم وتشغيل الكثير منهم في أعمار صغيرة جدا (سن الدراسة في التعليم الأساسي أو المتوسط), في أعمال شاقة دونما احترام لحقهم المشروع في التعليم, ونمو شخصياتهم نموا طبيعيا يستمتعون فيه خلال مرحلة طفولتهم بالرعاية والحنان والتوجيه, وهو حق أساسي من حقوق الإنسان كما قررته جميع الشرائع السماوية والوضعية . و تتسع الظاهرة لتشمل بعض الأنشطة اللاخلاقية ، وذلك ببروز ظاهرة “قديمة حديثة”، هي استخدام كل من الصغار والكبار في “البغاء” للإناث أو “اللواط” للغلمان, والسمسرة للرجال, وهي ظاهرة خطيرة وتتنافى مع جميع الأعراف والقيم . وهي من بقايا مظاهر العبودية، وجميعها ظواهر تهدد السلم الاجتماعي و هي كارثة بكل المقاييس، فالمشكلة قائمة والآثار تلقي بظلالها السلبية على المستقبل، خصوصا وأنه يترتب عليها آثار مدمرة للقيم الاجتماعية الفاضلة، وأعراض من شأنها أن تولد مشكلات تهدد الأمن الاجتماعي والأخلاقي للمجتمع.
حسب المختصين فإن تنامي ظاهرتي الفقر والبطالة، من أهم الأسباب التي ساهمت في تفشي ظاهرة الإتجار بالبشر ، فضلا عن الحروب والصراعات السياسية وغياب الوازع الديني و الوازع الاخلاقي ، وانعدام العقوبات القانونية والروادع الاجتماعية، التي ينبغي أن تعاقب كل من ينخرط في أي نوع من انواع الإتجار بالإنسان, وتردع كل من تسول له نفسه ممارسة أي نشاط يهيئ لها أو يمارسها أو يدافع عنها أو يبررها, إلى جانب الهجرة من الريف إلى المدينة وتدفق اللاجئين بكثافة من مناطق النزاعات المسلحة وارتفاع معدل النمو السكاني، وقصور الأداء في بعض الأجهزة الأمنية وضعف التوعية الإعلامية بمخاطر الإتجار بالبشر.. بالإضافة إلى انتشار الأمية والجهل الذي يعد من الأسباب الرئيسية لجميع الظواهر الاجتماعية والاقتصادية السلبية في أي مجتمع قديما وحديثا, ودوافع الكسب غير المشروع لدى مجموعة من الناس حتى وإن كان منافيا لمبادئ الدين وفضائله ومعارضا للأعراف والقيم الاجتماعية الفاضلة و القيم الانسانية . وهو احد نتائج العولمة المتوحشة التي اجبرت البشر على قبول الهشاشة كمعيار للعمل.
حسب احصائيات المنظمة العمل الدولية التي تنذر بالخطر فانه عبر العالم هناك 21 مليون عامل بالسخرة بينهم 11.4 مليون امراة وطفلة و 9.5 مليون رجل وصبي ، وان عدد الاطفال اقل من 18 سنة يمثل 26/100 أي (5.5 مليون)،من بين ال 21 مليون 19 مليون مستغلين من طرف الخواص و الشركات بينهم 4.5 مليون ضحية استغلال جنسي قسري و 2 مليون مستغل من طرف دول و مجموعات عسكرية .و القطاعات المعنية بهذا الاستغلال هي العمل المنزلي ،الفلاحة ،البناء ،التصنيع، و التسلية… و العمال المهاجرون هم الاكثر عرضة للاستغلال مع السكان المحليين الاكثر تعرضا للتشغيل بالسخرة. وبالمقابل المتاجرون بالعمالة او بالاحرى الرق الجديد يحققون ارباحا خيالية .
هذه الارقام المنذرة بالخطر تدعو النقابات الى التجند للعمل على الوقاية و حماية الضحايا، و الترافع من اجل تعويضهم وفضح جرائم الاتجار بالبشر و استغلالهم في العمل قسريا. لاننا نرى اليوم ان الاتفاقية رقم 29 لسنة 1930 حول العمل الجبري و الاتفاقية رقم 105 لسنة1930حول الغاء العمل الجبري ،لم تعد كافيتان يجب تدعيمهما بتشريع اخر يضمن الكرامة البشرية. و يبقى الحديث و العمل على ترسيخ مبدأ العمل اللائق الحل للقضاء على كافة اشكال الاستغلال،لأن هذه التجارة التي تقوم على الإثم و الخطيئة و الغبن والإستغلال والإجحاف و الفساد, هي تجارة فاحشة ومحرمة وباطلة بكل المعايير الدينية والأخلاقية والإنسانية. و بان الظاهرة او بالاحرى الافة الانسانية بدات تستفحل في وطننيا العرب و بطريقة غير لائقة و نحن على مشارف ايام من انعقاد مؤتمر العمل العربي ، ومن هنا ندعو المؤتمرين ايجاد صيغ قانونية عربية لمحاربة الظاهرة و انقاذ بشر من الذل و العبودية و لا ذنب لهم الا انهم يبحثون عن لقمة العيش بكرامة ففقدوا كرامتهم و انسانيتهم و اصبحوا مماليك في عصر العولمة، وفي زمن المطالبة بالديمقراطية و العدالة و الحرية يعود الرق من الابواب الخلفية، ويبقى العمل اللائق حلم المدينة الفاضلة.
سعاد شريط