من البناء الفوضوي إلى الهدم الفوضوي: “بيلدوزار” ولاية تيبازة يتحرّك نحو رهن علاقة المواطن بالدولة

كشفت آليات الهدم التي دارت محرّكاتها في اجتماعات مجلس الولاية عن الغياب التام للدولة طيلة عشريات كاملة، لتستفيق على وقع نسيج عمراني فوضوي أحاط بكل المدن، فأرادت أن تستعيد هيبتها بتعليمات من وزير الداخلية والجماعات المحلية غير أن الواقع الذي أفرزه هذا الغياب صار أكثر تعقيدا من معالجته بواسطة الجرافات التي صوّبها والي تيبازة –كسائر وُلاة الجمهورية- نحو كل ما هو فوضوي.
ويؤكّد استطلاع الواقع عن وضعيات ستؤدي إلى أخطاء عميقة إن لم تتمّ معالجتها ميدانيا بحثا عن مصلحة الدولة من جهة ومصلحة مجموعات المواطنة من جهة أخرى، فالكثير من الأحياء الفوضوية تتشابه في مختلف بلديات الولاية من أقصى شرقها إلى أقصى غربها، كما هو الشأن في ولايات عديدة من الجزائر. بحيث لجأ المواطنون إلى حلّ أزمة السكن التي يعيشونها منذ عقود بالاستيلاء على أراضي الدولة ليتمكنوا من خلال مدّخراتهم من إنجاز سكنات أغنتهم عن طول الانتظار للاستفادة من الحق في السكن الذي يُعتبر أحد ركائز الدولة الإجتماعية، فقام هؤلاء بعملية الإسكان الذاتي نيابة عن الدولة في هذه المهمة، موفرين مجهوداتها لغيرهم، وتُشكل هذه الفئة من متوسطي الدخل وأدنى من ذلك نسبة كبيرة من البناءات الفوضوية التي تحوّلت إلى أحياء كبيرة في معظم بلديات الولاية.
أما الفئة الثانية، فقد لجأت إلى البناء الفوضوي في غياب تام لرقابة الدولة، وتتشكّل من ميسوري الحال من أصحاب المال وذوي النفوذ من إطارات وإطارات سامية ليُشَيّدوا بناءات ثانوية خاصة بالاستجمام أو موجّهة للبيع كما يفعل العديد من السماسرة وحتى من مبيضي الأموال. هذا الصنف نهب أهم الأراضي معظمها محمي بقانون 02/02 المؤرخ في 05 فبراير 2002 والمتعلق بحماية الساحل وتثمينه.
ما هي أغراض السلطات العمومية من إطلاق عملية هدم بهذا الشكل غير المسبوق؟
الأراضي التي طالها النهب هي أراضي فلاحية أو غابية في أغلب الأحيان، أما بالنسبة للفلاحية منها فيؤكّد أخصائيو الفلاحة أنّه لا يمكن إعادة هذه الأراضي إلى ما كانت عليه، فيستحيل الزراعة مجدّدا في هذه الأراضي المبنى عليها، أما الغابية منها فالأشجار أيضا لا تنمو فوق ركام الإسمنت المسلّح، ناهيك عن النفايات الصلبة التي تترتّب عن عملية الهدم والتي ستشكّل بدورها مشكلا كبيرا، حيث تعرف الجماعات المحلية عجزا كبيرا عن تصريفها والتخلّص منها في غياب مفرغات خاصة بهذا النوع من النفايات. كما يبقى التساؤل قائما حول دور المصالح الفلاحية وإدارة الغابات أثناء عملية نهب أراضي قطاعاتهم؟؟ حُجّة السلطات العمومية للحفاظ على الأراضي الفلاحية لا تبدو مقنعة بعد تحويل أجوَد الأراضي لسهل متيجة الغربية إلى البناء كما يحدث الآن في مزرعة بلحسن بشرشال التي اقتُطِعَت قطعةٌ منها لبناء مشروع 1033 وحدة سكنية ضمن برنامج عدل، وباقي القطع سيأتي دورها لا محالة…
كل الآراء تذهب إلى أنّ قرار الهدم الذي اتّخذته وزارة الداخلية والجماعات المحلية يدخل في إطار استعادة هيبة الدولة لا غير. لكن الهيبة التي تمنحها الجرافات للدولة لن تكون إلا آنية وظاهرية وقد تُفضي مخلفاتها إلى تهديم مفهوم الدولة في أذهان المعنيين بالعملية، وبالتالي فكل الخطابات المستقبلية للسلطات العمومية ستكون زبَدا وغبارا لدى هؤلاء الذين سيكونون عُرضة للانصياع أمام أيّ خطاب مخالف!. فمعالجة الوضع يحتاج إلى الرزانة والحكمة للبحث عن مخارج حقيقية للفوضى العمرانية الناجمة عن غياب الدولة لعقود طويلة أو لغضّها الطَرَف بسبب الحالة الأمنية في تسعينيات القرن الماضي. فعلى سبيل المثال، المدينة الفوضوية في مدينة شرشال هي أكبر من مدينة شرشال. ! ووادي السبت التي كانت مجرّد تجمّع سكاني تابع لبلدية ڨوراية أصبح يضاهي مدينة ڨوراية، وما نما بين فوكة ودواودة من بناء فوضوي أصبح يحتاج إلى استقلالية إدارية لتسيير شؤون سكانه، وما هو مشيّد في إيخلفاين والزيتون بالأرهاط لا يختلف عن المنتجعات السياحية المعروفة على الشريط الساحلي للجزائر.
وبالمقابل، إن كانت هذه الإجراءات من باب تسليط العقاب، فقد اعترف والي تيبازة في تصريحات عديدة أنّ هناك متواطئين من المسؤولين لتسهيل عملية الاعتداء على أملاك الدولة، والتواطؤ –قانونا- هو جريمة كاملة الأركان ما يضع صاحبه شريكا في الجريمة، وهذا يستوجب أيضا البحث عن هؤلاء المتواطئين ومعاقبتهم كما تقتضيه القوانين السارية…
العقارات التي تكون الدولة في حاجة إليها لإطلاق مشاريع ذات منفعة عامة، تكون تحت طائلة نزع الملكية، فلا حاجة للإشارة إلى ذلك فالمشرّع الجزائري منح هذا الحق للدولة منذ الأمر 76/48 المؤرّخ في 25 ماي 1976 إلى غاية المرسوم التنفيذي رقم 05-248 المؤرخ في 10 يوليو سنة 2005 الساري إلى يومنا هذا. كما أنّ هدم البناءات الهشّة والقصديرية هي عملية مستعجلة لمنع تفاقم الانحطاط العمراني والاجتماعي وانتشار الآفات المترتّبة عن هذا النوع من التجمعات السكنية، وكذا تحميل الدولة مسؤوليات جديدة لإعادة الإسكان، جرّاء عملية النزوح والحراك الديمغرافي…
أما البناءات الموافقة لمعايير البناء فمهما كانت طبيعتها القانونية وافتقادها للشرعية فقد أصبحت جزءًا من الثروة الوطنية، فالحديد والإسمنت ومختلف مواد البناء المستعملة هي ناتج نشاط إقتصادي للبلاد، ومنها المستورد كلّف خزينة الدولة من أموال النفط ما كلّف.. فالحفاظ على الثروة الوطنية لحسن استغلالها من هيبة الدولة أيضا، ما يتطلب معالجة موضوعية دون إسقاط واجب الدولة في الردع والعقاب، فتهمة الاعتداء على أملاك الدولة قائمة وموصوفة في هذه الظاهرة، ما ينجرّ عنها العقوبة. ومصلحة الدولة في المرحلة الراهنة هي تغذية الخزينة العمومية من مصادر جديدة وغير مدرجة سابقا، خير من المساهمة في هدر ثروة عمرانية قد تُغنيها عن الكثير من الالتزامات، وقد تتسبّب أيضا في إحداث شرخ واسع بينها وبين المواطنين وبين فئات من المواطنين بعضها من بعض، فهذه الجرافات لا يمكنها أن تكون عادلة في عملية الهدم فقد تمسّ البعض دون الآخر في الحي الواحد، كما هو الشأن في أعالي حي 116 مسكن بشرشال الذي وضعت سلطات البلدية عينها عليه لتنظيفه دون أخذ بعين الاعتبار أوضاع ساكنيه، والذي تضمّ الفوضى فيه المواطن البسيط الذي “سْلّك راسو” من أزمة السكن إلى الإطار السامي، وهذا الوضع ينطبق على مختلف الأحياء في مختلف البلديات. فهل ستضمّ حصيلة الهدم أسماء كل من اعتدى على أراضي الدولة، كما أنّ مهمة هذا البيلدوزير ستكون صعبة للغاية في حي الزيتون بالأرهاط!! ؟
حسان خروبي